#اللغات فى_أفريقيا
إن المتابع للمشهد اللغوي في أفريقيا عن كثب يجد أن هذا المشهد لا يقتصر على وجود اللغات الأفريقية المحلية فقط؛ بل يوجد عدد من اللغات الأجنبية التي لها وجود بارز على الساحة الأفريقية. ومن أبرز هذه اللغات الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية والأسبانية، تلك اللغات التي قدمت مع الاستعمار الأوربي للقارة الأفريقية، ولكنها ظلت بعد رحيله. وتتمتع هذه اللغات بوضع متميز وسط المشهد اللغوي الأفريقي؛ سواء على المستوى السياسي أو الثقافي أو التعليمي أو الإعلامي، إلى درجة أن الدول الأفريقية أصبحت تصنف تصنيفاً لغوياً وثقافياً تبعا لإحدى هذه اللغات، فصار لدينا الدول الأفريقية الفرانكفونية أي الناطقة بالفرنسية، والدول الأفريقية الأنجلوفونية أي الناطقة بالإنجليزية، والدول الأفريقية اللوسوفونية أي الناطقة بالبرتغالية.
- دخول اللغات الأوربية أفريقيا
يرجع دخول اللغات الأوربية إلى أفريقيا إلى فترات قديمة، وقد سلكت هذه اللغات عدة طرق للوصول إلى أفريقيا منها حركة الكشوف الجغرافية وما تبعها من إقامة مناطق ونقاط تمركز للدول الأوربية على السواحل الأفريقية؛ الأمر الذي مثَّل بداية الاحتكاك المباشر بين الأوربيين والأفارقة، وعرَّف بهذه اللغات الأوربية وبشر بها بين الأفارقة.
كذلك سلكت اللغات الأوربية سبيلاً آخر نحو القارة الأفريقية عن طريق البعثات العلمية التي كانت تفد إلى الأراضي الأفريقية لتقوم بالدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية عن الشعوب والجماعات الأفريقية فتدرس لغاتها وعاداتها الاجتماعية وطقوسها ودياناتها ونظمها في الحكم وغيرها من الأمور. وهي ما أطلق عليه الأنثروبولوجيا الاستعمارية؛ حيث كانت تقوم بهذا الدور لخدمة الأنظمة الاستعمارية وليس لأغراض علمية خالصة. وكان السبيل الثالث الذي سلكته اللغات الأوربية لأفريقيا هو سبيل البعثات التبشيرية التي جابت أنحاء القارة وأقامت بين أهلها واحتكت بهم احتكاكاً مباشراً، وبنت المدارس والكنائس والمستشفيات وقامت بدورين مزدوجين: أحدهما ديني وهو التبشير بالمسيحية بين الشعوب الأفريقية، والثاني استعماري وهو تمهيد الطريق للاستعمار وتهيئة المناخ لاستقباله وقبوله. وقد مهدت هذه النشاطات الطريق للغات الأوربية وسط الأفارقة من خلال التعامل والاحتكاك معهم.
أما السبب الأساسي لدخول اللغات الأوربية القارة الأفريقية فيتمثل في الاستعمار الأوروبي المباشر الذي استولى وسيطر على دول القارة الأفريقية لفترات طويلة، وفرض لغاته على شعوبها وأجبرها على استخدامها في الإدارة والتعليم ووسائل الإعلام والشئون السياسية وغيرها من المجالات، وحرمها من استخدام وتنمية لغاتها المحلية والقومية وحظر ذلك عليها، حظراً تاماً، في غالبية دول القارة. الأمر الذي أدى إلى تراجع مكانة هذه اللغات المحلية وتوقف تطورها، ومنح اللغات الأوربية مكانة سامية ووضعية متميزة، ترسخت وازدادت رسوخاً في المجتمعات الأفريقية مع طول مدة بقاء الاستعمار وسيطرته الكاملة على الدول الأفريقية.
- السياسات اللغوية للدول الأوربية الاستعمارية في أفريقيا
تعرضت دول القارة الأفريقية للاستعمار الأوربي وعانت منه لفترات طويلة؛ فقد وفدت القوى الاستعمارية من مختلف دول القارة الأوربية باختلاف مشاربها وخلفياتها الثقافية والاجتماعية والسياسية وتقاسمت دول القارة الأفريقية فيما بينها، فوجدنا الاستعمار البرتغالي والاستعمار الأسباني والإيطالي والفرنسي والإنجليزي والألماني والهولندي والبلجيكي([1]). وقد وفدت هذه القوى الاستعمارية بثقافاتها ولغاتها المختلفة على واقع لغوي أفريقي معقد من الأساس؛ فالقارة الأفريقية تتسم بالتعددية اللغوية الشديدة كما أوضحنا فيما سبق. وبالإضافة إلى العاملين السابقين، تباين الخلفيات الثقافية واللغوية والسياسية للدول الأوربية والتعددية اللغوية في أفريقيا، كان هناك عامل ثالث زاد وعمق التباين اللغوي داخل الدول الأفريقية المستعمَرة وهو اختلاف السياسات اللغوية والثقافية التي اتبعتها الدول الاستعمارية في الدول الخاضعة لنفوذها الاستعماري؛ الأمر الذي انعكس على دول القارة الأفريقية وزاد من تباينها اللغوي والثقافي وعقده.
وفي هذا الإطار يمكن تقسيم القوى الاستعمارية في أفريقيا إلى مجموعتين رئيستين هما: المجموعة اللاتينية وتضم فرنسا وإيطاليا والبرتغال وأسبانيا، والمجموعة الجرمانية وتضم بريطانيا وألمانيا. ويرتكز هذا التقسيم على أساس إثني من ناحية وعلى أساس مذهبي ديني من ناحية أخرى، فالمجموعة الأولى تتبع المذهب الكاثوليكي المنبني على التقاليد المركزية في السياسات اللغوية والثقافية. بينما تتبع المجموعة الثانية المذهب البروتستانتي وهو مذهب أكثر حرية وليبرالية لارتباطه بالأفراد والمؤسسات المستقلة”([2]).
وقد تميزت السياسة الاستعمارية لكل من فرنسا والبرتغال وأسبانيا بالمركزية الشديدة التي انعكست في النظم الإدارية بما سمي الحكم المباشر، وفي السياسات الثقافية والتعليمية واللغوية بما سمى بسياسة الاستيعابassimilation أو الاستعمار الثقافي؛ ولذلك استخدمت اللغة الفرنسية واللغة البرتغالية واللغة الأسبانية كلغات رسمية وكلغات للتعليم والتدريس للطلاب منذ اليوم الأول لدراستهم وذلك في التعليم الحكومي، لدرجة أنه لم يسمح للغات المحلية أن تدرس ولو حتى كمواد دراسية([3]). وقد ارتبط التعليم في هذه النظم بالإدارة الاستعمارية بشكل مباشر.
أما المستعمرات البريطانية والألمانية فكانت تتبع سياسة أخرى عرفت باسم سياسة الحكم غير المباشر وكانت أقل مركزية من نظيراتها اللاتينية، والتي وفقاً لها تم استخدام اللغات المحلية في السنوات الثلاث أو الأربع الأولى من المدرسة الابتدائية مع التحول التدريجي لتوسيع استخدام اللغة الإنجليزية (الألمانية) في بقية المرحلة الابتدائية، على أن يستمر التدريس باللغة الإنجليزية (الألمانية) في مراحل التعليم التالية”([4]). ولم يختلف الأمر كثيراً في المستعمرات البلجيكية فقد كان التعليم الإبتدائي يتم باللغات الأفريقية، بينما استخدمت الفرنسية في بقية مراحل التعليم([5]). أي أن بعض اللغات المحلية تم السماح باستخدامها في نطاق محدود، بينما فرضت الإنجليزية أو الألمانية أو الفرنسية في بقية المجالات.
وقد أدى هذا التباين في السياسات اللغوية والتعليمية والثقافية بين المجموعتين اللتين اقتسمتا القارة إلى توسيع الفجوة بين الشعوب الأفريقية نتيجة لانعكاس سياستهما اللغوية والتعليمية والثقافية على دول القارة. فقد فُرضت لغات جديدة وهُمشت لغات أخرى وانقسمت الشعوب بين مؤيد ومعارض لهذا الاتجاه أو ذاك، وفي النهاية فُرض على الأفارقة هذا الواقع الجديد والذي استمر لعشرات السنوات مما زاد من تعقيد الوضع اللغوي والثقافي في القارة المعقد من الأساس بما يمتلكه من لغات وثقافات محلية عديدة.
وظل هذا الحال في غالبية الدول الأفريقية طوال العهد الاستعماري، وتمزق النسيج اللغوي والثقافي للقارة وتوزع ما بين فرانكفونية وأنجلوفونية ولوسوفونية، في غياب وجود دور فاعل للغات الأفريقية المحلية. وبعد انتهاء العصر الاستعماري والحصول على الاستقلال كان من المتوقع أن يتغير الحال بحيث تنال اللغات الأفريقية المكانة اللائقة بها وأن يقوم أبناؤها بتنميتها وتطويرها، إلا أن هذا الأمر لم يتحقق، بل على العكس من ذلك ترسخ الوضع أكثر فأكثر وزادت مكانة هذه اللغات مع مرور الزمن حيث ظلت السياسات اللغوية والتعليمية والثقافية في غالبية الدول الأفريقية على ما هي عليه، أو مع تغييرات طفيفة أو شكلية، مما ترتب عليه تداعيات وآثار هامة تركت بصماتها على المشهد اللغوي في أفريقيا. ويمكن رصد وضع اللغات الأوربية في الدول الأفريقية من خلال تناول استخدامها في المجالين الرسمي والتعليمي وذلك لتوضيح مدى تأثير ونفوذ هذه اللغات حتى وقتنا الحالي.
—————————————————————————————–
المصادر و المراجه
[1]– لمزيد من التفاصيل حول استعمار القارة الأفريقية راجع: زاهر رياض: “استعمار أفريقيا”، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة – 1965. وكذلك: شوقي الجمل، عبد الله إبراهيم، “تاريخ أفريقيا الحديث والمعاصر”، دار الثقافة، الدوحة – 1987.
[2]-إمباي لو بشير(1996):”قضايا اللغة والدين في الأدب الأفريقي”، مركز المستقبل الأفريقي، القاهرة. ص49.
[3]-Webb,Vice, Kembo-Sure (2001): ”African Voices”, Op.cit., p.53, footnote 12.
[4]-Webb,Vice, Kembo-Sure (2001): ”African Voices”, Op.cit., p.53, footnote 12.
[5]– كويسى كو براه (2001): “اللغات الأفريقية وتعليم الجماهير”، ترجمة وتحرير حلمي شعراوي، مركز البحوث العربية، دار الأمين– القاهرة ، ص ص169، 171.
وانظرأيضا:كلود فوتييه:” إفريقيا للإفريقيين”، ترجمة أحمد كمال يونس، دار المعارف- القاهرة، ص ص31-33.
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *