بالنظر إلى أوضاع البلاد ومسيرتها التنموية, هناك عوامل ساهمت في تحقيقها لتلك الإنجازات, فهي دولة جزرية رغم وجودها ضمن دول القارة غير أنها تنفصل عن إفريقيا بعدة أميال
عندما يكون الأمر حول جمهورية موريشيوس – أرخبيل المحيط الهندي, فهذا يعني الحديث عن النموذج الإفريقي في تحقيق الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي. بل هناك عدد ضئيل من دول القارة يمكنها التغلب على هذه الدولة الواقعة في شرق إفريقيا.
على الرغم من موقعها البعيد، وحجمها الصغير، وتنوعاتها العرقية المتعددة؛ فقد تفوقت موريشيوس في قصص نجاحها ومستويات نموها مقارنة مع معظم الدول الإفريقية الأخرى. بل بالنظر إلى التصنيفات والمؤشرات العالمية: فهي في أعلى القائمة من بين الدول الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء عندما يتعلق الأمر بسيادة القانون, وهي أيضا في الترتيب الأول على مستوى إفريقيا في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية – وفي رقم 81 من أصل 182 دول في جميع أنحاء العالم. وفيما بين عامي 1970 و 2010 ، بلغ متوسط الناتج المحلي الإجمالي لنمو البلاد السنوي 5.4 في المئة.
وحسبما يرى الباحث من كلية كينيدي بجامعة هارفارد “جيفري فرانكل”:”تستطيع أي دولة من حيث المبدأ أن تتبنى مؤسسات فعالة وسياسات قوية في أي وقت … في حالة موريشيوس, تكمن الأصول الأساسية العميقة في السكان غير المحليين بمزيج غير عادي من الأعراق: وهم الفرنسيون الموريشيوسيون, وشعوب الكريول الذين أبدوا استعدادهم وقت الاستقلال لمبادلة هيمنتهم في الماضي على السلطة السياسية للضمانات تحت النظام الجديد, والهنود الذين كانوا على استعداد لاتخاذ الجانب الآخر من الصفقة, والصينيين الذين لديهم صلات ببلدهم الأصلي. وكما هو الحال مع جمهورية سيشيل والرأس الأخضر, فالجميع في موريشيوس جاءوا من مكان آخر”.
موريشيوس: تأريخ وثقافة
موريشيوس, ورسميا “جمهورية موريشيوس”؛ دولة جزرية في المحيط الهندي بحوالي 2000 كيلومتر قبالة الساحل الجنوبي في شرق إفريقيا وتبعد عن جمهورية مدغشقر بحوالي 860 كيلومتر. تشمل الدولة كلا من “جزيرة موريشيوس” و “رودريغز” 560 كيلومتر في الشرق، والجزر الخارجية وهي “أغاليغا” و “سانت براندون” واثنتان من المناطق المتنازع عليها. ويُقدّر عدد سكانها بحولي 1.3 مليون, وأهم لغاتها هي: الإنجليزية (لغة المكاتب)، الكريول, الفرنسية واللغات الهندية. وهي عضو في منظمة التجارة العالمية، والاتحاد الأفريقي، والجماعة الإنمائية للجنوب الأفريقي (سادك)، ولجنة المحيط الهندي ودول الكوميسا, كما أنها شكلت رابطة حافة المحيط الهندي.
يبلغ عدد سكان البلاد قرابة 1.3 مليون نسمة. يشكل المسلمون نحو 17% وفق تقارير عديدة, و الهندوسيون – لكون الهنود ضمن أكثر العرقيات الموجودة في البلاد – يشكلون حوالي 50%، والنصارى يشكلون 32% – مع كون 73 % منهم من الرومان الكاثوليك, في حين يشكل غيرهم نحو 1% من السكان.
يشير المؤرخون إلى أن البحارة العرب والسواحيليين كانوا أول الذين عرفوا موريشيوس وذلك قبل عقد 1500, وأن المستكشفين البرتغاليين زاروا المنطقة في أوائل القرن السادس عشر. في عام 1638 حاول الهولنديون استعمار الجزيرة للعيش فيها, وجلبوا أعدادا صغيرة من العبيد الأفريقيين مع كمية من قصب السكر إليها.
كانت الصعوبة التي يواجهها الهولنديون في الحفاظ على المستوطنات أدت بهم إلى أن يتركوها في حوالي عام 1710. وبعد خمس سنوات، استولى “دوفريسن دي أرسيل” على موريشيوس لصالح فرنسا تحت شركة الهند الشرقية الفرنسية, حيث سبق أن استولى الفرنسيون على جزيرة “ريونيون” المجاورة، لتصبح المنطقة والجزر المجاورة قاعدة هامة لهجمات فرنسا على الممتلكات البريطانية في زمن الحرب. لكن البريطانيون نجحوا في الهجوم للاستيلاء على الجزر الاستراتيجية في 1810م, غير أنهم بعد أربع سنوات ردّوا منطقة “ريونيون” إلى فرنسا بسبب عدم وجود موانئ جيدة فيها. وفي هذه الأثناء لم تشهد ثقافة موريشيوس تغيرا ملحوظا مع تحكم البريطانيين فيها.
في عام 1825, تم إلغاء التعريفة التفضيلية للسكر في جزر الهند الغربية، ومن هنا تحولت موريشيوس إلى اقتصاد قائم على السكر. وأدى إلغاء العبودية وتجارة العبيد في عام 1835 إلى التغيرات الديموغرافية في المنطقة. وكانت الغالبية العظمى من مجموع السكان هم العبيد العاملين في المزارع.
فرّ ما يزيد عن نصف العبيد من المزارع للعيش في مدن الصفيح أو أرض غير مأهولة بسبب إعلان إلزامية أداء أو دفع الفرائض. وللتعويض عن الخسارة في القوى العاملة، قام أصحاب المزارع باستيراد ما يقرب من 500,000 عمال من الهند. بين 1835-1845 زاد عدد السكان الهنود من الصفر إلى ثلث مجموع السكان.
سمح دستور البلاد لعام 1886 لبعض شعوب الكريول وفرانسيي موريشيوس أن يكونوا ممثلين وطنيين، كما أن دستور عام 1948 أعطى جميع البالغين الذين يستطيعون القراءة والكتابة الحق في التصويت.
تتمتع موريشيوس بالحكم الذاتي منذ حوالي 1950، مما سهل لها عملية الاستقلال الكامل عن بريطانيا في 12 مارس عام 1968, وذلك بقيادة “سيووساغور رامجولام” والذي أصبح فيما بعد أول رئيس وزراء البلاد. وتبنت البلاد دستورا على أساس النظام البرلماني البريطاني. ومع أن السنوات الأولى بعد الاستقلال في غاية الصعوبة لحكام الدولة إلا أنها بعد أكثر من 15 عاما من التخطيط والعمل الجاد، حققت موريشيوس الاستقرار السياسي والاقتصادي. وصارت البلاد جمهورية في 12 مارس عام 1992.
ومن هنا نتساءل: هل تمتلك جمهورية موريشيوس ثقافتها الفريدة من نوعها – كغيرها من الدول الإفريقية، أم أنها ما زالت في طريقها لتطوير وتنمية ثقافتها الخاصة؟
إن أسهل طرق لفهم هوية موريشيوس الوطنية هو في مدارس البلاد, حيث يندمج الجميع مع بعضهم البعض, وكذلك في المكاتب ومكان العمل والمحلات. فثقافات مواطني جمهورية موريشيوس الذين جاءوا من أصول وأعراق مختلفة هي التي تشكل هوية الجهمورية الجزرية, حتى وإن لم توجد – حتى اليوم – سمات ثقافية وطنية موريشيوسية محددة.
موريشيوس: من جزر صغيرة إلى الاستقرار والازدهار
كان أكثر من 50 ٪ من أراضي موريشيوس صالحة للزراعة، مع كون قصب السكر يحتل حوالي 90٪ من مجموع الأراضي الزراعية. بل في عام 2013، أنتجت موريشيوس ما يقدر بـ 407 ألف طن من السكر.
تباينت توقعات المراقبين الدوليين عندما أصبحت البلاد مستقلة في عام 1968، مع ذهاب غالبيتهم إلى أن اقتصادها سيشهد ضعفا في الأداء بسبب كثافة البلاد السكانية العالية رغم صغر حجمها وانقساماتها العرقية، وخاصة وأنها كانت تعتمد حينها على على محصول واحد فقط وهو السكر. لكن حكامها وصناع قرارها تخطوا تلك التوقعات والعقبات بسلسلة من السياسات الرئيسية التي تبنوها واتخذوها فساعدت على وضع البلاد في خارطة الدول العالمية المتقدمة.
وعلى الرغم من الرياح الاقتصادية المعاكسة التي تعاني منها دول العالم، وخاصة تباطؤ النمو في منطقة اليورو التي تعتمد عليها موريشيوس اعتمادا كبيرا في قطاع السياحة والتجارة والاستثمار الأجنبي المباشر، أشار البنك الدولي إلى أن اقتصادها نما بنسبة 3.5 ٪ في عام 2015 ، على غرار وتيرة 3.4٪ في عام 2014. وكانت محركات هذا النمو هي السياحة، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والقطاع المالي والتأمين الذي ارتفع بنسبة 8.6 ٪ ، 6.9 ٪ و 5.2٪ على التوالي. وفي المقابل، شهد قطاع التشييد والبناء للعام الثاني على التوالي تقلصا بنسبة 4.3 ٪ وانخفضت قيمة المنسوجات المضافة أيضا بنسبة 1٪.. نموّ هائل من جزر صغيرة!
وبالنظر إلى أوضاع البلاد ومسيرتها التنموية, هناك عوامل ساهمت في تحقيقها لتلك الإنجازات, فهي دولة جزرية رغم وجودها ضمن دول القارة غير أنها تنفصل عن إفريقيا بعدة أميال, وهذه ميزة تجعلها تستفيد من جغرافيتها في المحيط الهندي واقتصادات آسيا وديموغرافيتها التنوعية, دون تأثر بشكل مباشر عما يحدث في القارة.
كما أنها لا تشهد حروبا قبلية أو صراعات عرقية لانعزالها الجزري, خلافا للدول الأفريقية الأخرى التي تعاني من النزاعات.. فبإمكان أي دولة خالية من الصراع الداخلي أن تركز على شيء أكثر إنتاجية. أيضا, بسبب موقعها الجميل – والذي غالبا ما يطلق على الدولة بسببه أنها “جنة صغيرة” – كانت ضمن أعلى الجزر العالمية المستخدمة للسياحة والمفضلة لقضاء الإجازات من قبل النخب الدولية وخاصة من أوروبا.
وتجدر الإشارة أيضا إلى مرونتها الاقتصادية, بل البعض يرون جمهورية موريشيوس صورة طبق الأصل من سنغافورة لعدة عوامل, إذ البلاد من بين أكثر الاقتصادات حرية في العالم. فقد بذلت حكوماتها منذ عقد من الزمن مجهودات جبارة في بناء التعليم والبنيات التحتية والتنمية الاجتماعية.
إن الدروس المستفادة للدول الإفريقية من إنجازات موريشيوس, هي أن التجارة أمر بالغ الأهمية للنمو, وأن النزاعات والاختلافات العرقية يمكن استيعابها من قبل نظام سياسي برلماني مصمم تصميما جيدا, وأن “الديمقراطيات” باستطاعتها أن تصلح النظم الاقتصادية بأساليب تعزز النمو الاقتصادي وتقوي التماسك الاجتماعي.
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *