يا ترى! ما سبب رفض البورونديين لولاية ثالثة, مع أن الروانديين وافقوا على اقتراع تعديل الدستور كي يتسنى لرئيسهم الترشح لولاية أخرى بعد انتهاء فترة ولايتيه في عام 2017 ؟!
فى ختام زيارته لإفريقيا, حذر الرئيس الأمريكي باراك أوباما القادة الأفارقة من أن “الديمقراطية” فى القارة مهددة بسبب عدم التزام رؤساء أفارقة بالفترات الرئاسية المنصوص عليها فى دساتير بلدانهم, وطالبهم بالقضاء على ما وصفه بـ “سرطان الفساد” وخلق مزيد من الوظائف لشباب القارة من أجل تجنب الصراع وعدم الاستقرار والفوضي؛ فقد وفق أوباما في ذلك, لأن حقيقة ما يحدث في بوروندي, هي كما لخصه أحد المتظاهرين بقوله: ( لقد حصل على وقته، ولم يقم بأي شيئ)
بورندي, إحدى دول إفريقيا الشرقية وعضو في “مجموعة شرق إفريقيا” , التي شهدت في ماضيها حربا أهلية دامية دامت لمدة 12 سنة المتمثلة في الصراعات العرقية بين “الهوتو” و”التوتسي” , الدولة التي تعاني منذ حوالي تسعة أشهر اضطرابا سياسيا والذي يثير مخاوف عدّة منظمات إقليمية ودولية. تحدها رواندا في الشمال، وتنزانبا في الشرق والجنوب, والكونغو الديموقراطية في الغرب، وتطل على القسم الغربي الشمالى من بحيرة تنجانيقا حيث تسير حدودها مع الكونغو.
الأزمة.. بدايتها وأسبابها وخطورتها
بعد انتهاء الحرب الأهلية في عام 2005, تمّ وضع دستور يشمل الجميع, وانتُخِب “بيير نكورونزيزا” زعيم المتمردين والمدرب الرياضي السابق, ليصبح أول رئيس للجمهورية. تم التجديد له مرة أخرى عام 2010 عن طريق الانتخاب وحصل على 92% من الأصوات باعتباره رئيسا للمجلس الوطنى للدفاع عن الديمقراطية الذى شكله الهوتو فى الأساس ككيان ممثل لهم فى الحرب الأهلية.
يرى مراقبون أن بداية الأزمة البوروندية الراهنة تعود إلى 25 ابريل العام الماضي, عندما أعلن الرئيس “بيير نكورونزيزا” ، عن نيّته للترشّح لولاية ثالثة, الأمر الذي أدّى إلى إطلاق حملات ضدّه من قبل المعارضة والمجتمع المدني والكنيسة الكاثوليكية وحتى من قبل بعض مؤيديه, محتجّين بأن ترشّحه لولاية أخرى بعد انتهاء فترة الولايتين غير دستوري.
– فيا ترى! ما سبب رفض البورونديين لولاية ثالثة, مع أن الروانديين وافقوا على اقتراع تعديل الدستور كي يتسنى لرئيسهم الترشح لولاية أخرى بعد انتهاء فترة ولايتيه في عام 2017 ؟!
– لماذا فشل “نكورونزيزا” ؟ ولماذا نجح “بول كاغامي” ؟
أفادت تقارير بأن ما سعى إليه “نكورونزيزا” وحزبه الحاكم فترة ولايتيه السابقتين هو القبض على جميع مفاصل السلطة بكل قوة, ولو كان ذلك يحتاج إلى استخدام العنف. كما أن مجموعة صغيرة من كبار ضباط الجيش وموظفي القطاعات الحكومية احتكروا موارد الدولة لصالحهم, ناهيك من الرشاوى التي تقبلها الشرطة وغيرها من الهيئات الإدارية .
وفي الفترة نفسها, يواجه الأفراد القائمون بمواجهة الفساد عقوبة قانونية أو قتلا ممنهجا. بل تمّ طعن أحد النشطاء المحاربين للفساد حتى الموت في عام 2009 أثناء تحقيقه في قضية تهريب الأسلحة بين الشرطة و “القوات الديمقراطية لتحرير رواندا” (الميليشيا المتهم بالإبادة الجماعية في رواندا, ومقره في الكونغو) . ولعلّ ما سبق يتوافق مع ما يذهب إليه الرئيس الرواندي “بول كاغامي” أثناء حديثه عن الأزمة البورندية, إذ قال : في الواقع, المشكلة كلها ليست في عدم دستورية الفترة الثالثة ولكنها في ضعف أو عدم تقديم ( الحكومة ) أي شيء (للبلاد) على الإطلاق .
لقد أثار إعلانه غضب المعارضين, فقاموا بسلسلة من الاحتجاجات بشكل يومي ليبدوا عدم موافقتهم للخطوة, غير أنه تمّ حظر التظاهرات وغيرها من النشاطات. وفي مايو عام 2015، أحبطت السلطة محاولة انقلاب فاشل بقيادة الجنرال “غودفروا نيومباري” متمرد عسكري سابق ورفيق نكورونزيزا , فهرب بعض الانقلابيين إلى خارج البلاد ومنه يناشدون المنظمات الدولية بإنقاذ وتحرير البلاد. وفي منتصف يونيو, اندلعت مواجهة بين المتظاهرين والجيش, مما أسفرت عن مقتل ما يقدر بنحو 80 شخصا. وعلى الرغم من استمرار الاحتجاجات والمظاهرات، فقد أعيد انتخاب نكورونزيزا بحصوله على أكثر من 69% من الأصوات بنسبة مشاركة ضئيلة إذ قاطعت المعارضة الانتخابات. وتفوق على منافسه الوحيد “أغاثون رواسا” بعد أن أجرى تعديلاته الدستورية التى تؤهله للمكوث فى السلطة لمدة 5 سنوات قادمة دون أي مبالاة بما يجري في الشوارع. ومنذ ذلك الوقت, تضطرب الأوضاع السياسية بوقوع اشتباكات تحت جنح الظلام بين قوات الأمن والمنشقين في مناطق المعارضة في العاصمة بوجمبورا ، حيث الأسلحة موجودة بكثرة. وفي 11 ديسمبر ، هاجم مسلحون ثلاث ثكنات عسكرية في بوجمبورا وأماكن أخرى, وقتل 87 شخصا فيها وفي غيرها من الحملات في معاقل المعارضة. وكما تقول الأمم التحدة, فقد قتل ما لا يقل عن 400 شخصا منذ اندلاع الأزمة في أبريل العام الماضي, وشُرّد غالبية المواطنين داخليا بسبب النزاع, وغادر معظمهم المراكز الحضرية والمدن وتوجهوا إلى الشمال أو إلى قراهم, ويضاف إلى ذلك فرار أكثر من 230,000 لاجئ إلى الدول المجاورة.
تدخلات إقليمية ومخاوف دولية
صحيح أن التوتسي هم النقاد والمعارضون الأكثر صخبا ضد ترشح نكورونزيزا لفتره الثالثة, لكن الأزمة سياسية في الأساس وليس عرقية، لأن لـ “نكورونزيزا” معارضين من جميع الجذور والقبائل.
حاولت الدول الغربية والدول الإفريقية الإقليمية منع نكورونزيزا من الترشح ، ولكنه بدل التنازل, طلبت حكومته من الدبلوماسيين والمنظمات الأجنبية أن يلتزموا بــ “الحياد الدبلوماسي”.
هذا, وقد ارتفعت حدة أصداء الخطابات السياسية في المجتمع البوروندي منذ الشهرين الأخيرين فصارت تتضمن الإشارة إلى “الإبادة الجماعية” التي حدثت في رواندا عام 1994 وكان عدد ضحاياها 800,000 قتلى, ومعظمهم من التوتسي. ونشرت صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية مقالا بعنوان: “في بوروندي.. بدأت إبادة جماعية” ، حيث أشارت كاتبة المقال إلى أن عدد القتلى المتزايد في أجزاء من العاصمة بوجمبورا يكفي كدليل لبدايات إبادة جماعية, واقتبست قول أحد أعضاء الشتات البوروندي، الذي ذهب بعيدا ليقول: “إن القتل الجماعي قد بدأ بالفعل في بورندي” (6).
قامت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بدعوة كل من الحكومة المعارضة بالتهدئة وعدم إذكاء نيران العنف. وبعث الأمين العام للأمم المتحدة “بان كي مون” مبعوثه الخاص في منطقة البحيرات العظمى إلى بوروندي, وذلك لإجراء محادثات مع الحكومة البوروندية والمعارضة. كما أن الاتحاد الإفريقي ما زال مصرّا على التدخل بقواته لحل الصراع في حالة استمرار الوضع دون حل فاعل أو توافق بين الطرفين.
الولاية الثالثة.. والدعوة للحوار
إن الناظر في الوضع السياسي في بورندي يدرك أنه تغير كثيرا مقارنة بما كان عليه في عام 1994, لأن القطاعات الحكومية اليوم مقسمة بين كل القبائل. فقوات بوروندي المسلحة تتكون من 50 ٪ من الهوتو و50% من التوتسي، تمشيا مع خطة السلام والمصالحة و “اتفاقات أروشا” وغيرها لوقف إطلاق النار. كما أن التركيبة العرقية للحكومة يفضي إلى استبعاد إمكانية حدوث قتل جماعي، كما كان الحال في رواندا عام 1994.
في بداية يناير من العام الجاري, كان من المتوقع أن تجري محادثات السلام بين الحكومة و المعارضة، غير أنه تم تأجيلها دون تحديد أي موعد لاستئنافها. وقد عقد ” أوغسطين ماهيغا” وزير الشؤون الخارجية لمجموعة دول شرق إفريقيا ووزير العلاقات الدولية لتنزانيا، اجتماعا تشاوريا في أروشا بشأن الوضع لمناقشة سبل التوصل إلى اتفاق. وشارك في الاجتماع كل من وزير الشؤون الخارجية الأنغولي “جورج بينتو ريبيلو شيكوتي” ، ووزير الدفاع الأوغندي “كريسبوس كيونجا”، وميسر الحوار السفير “الدكتور ريتشارد سيزيبيرا” ، و “قاسمي بامبا” سكرتير مجموعة شرق إفريقيا العام من مكتب الاتحاد الأفريقي في بوروندي ومنطقة البحيرات العظمى (7).
وتجدر الإشارة إلى أن العنف والاشتباكات ما زالت متواصلة لكنها مقتصرة إلى حد كبير على مناطق محددة في العاصمة، بما يعني أن المناطق الريفية ما زالت سلمية نسبيا, خصوصا وأن غالبية البورونديين أظهروا مقاومتهم لإحباط جهود أولئك الذين يحرّضون لتعميم العنف وتسخير الوضع لمصالحهم. فالأصوات الدولية ما زالت تعبر عن مخافتها وقوع “إبادة جماعية” , غير أن واقع الأمر يشير إلى أن الأزمة الدئرة صراع سياسي يمكن حلّه, وقد يؤدى التلاعب به أيضا أو إهماله إلى تأجيج نيران مزيد من العنف.
إن التحديد الزمني لعدد وفترة الولاية في الرئاسة, قضية لم تنجح فيها أعضاء “مجموعة شرق أفريقيا (EAC) ” الخمسة سوى كينيا وتنزانيا، ولذلك كان أفضل ما قدموه في أزمة بوروندي حتى الآن هو دعوة كل الأطراف للحوار.
وفي الحقيقة, إن الحوار هو الطريق الأمثل لحل الأزمة وللمضي قدما، وليس التدخل العسكري الأجنبي الذي ينادي به المنظمات الإقليمية الدولية بدعوى الخوف من وقوع “حرب أهلية” أو “إبادة جماعية “. بل التدخل العسكري قد يؤدي إلى لجوء كل الأطراف إلى التشدد والتسلّح مما قد يحول الأمر إلى الحرب.
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *