مظاهر العلاقات الفكرية و الثقافية بين المغرب و السودان الغربي، لا يمكن الحديث عنها بدون إجلاء و توضيح جوانبها المتعددة و المختلفة، فهناك ظاهرة الرحلة المزدوجة، من المغرب إلى السودان و من السودان نحو المغرب،و ظاهرة التدريس المتبادل لعلماء البلدين، و ظاهرة تتويج الممارسة العلمية،
تقديم
إذا كان موضوع العلاقات التجارية بين المغرب و السودان الغربي، قد أخذ حقه كاملا عند الباحثين و الدارسين و المهتمين بالعلاقات بين هذين القطرين، بفعل الهوامش الكبيرة التي يتيحها، فإن موضوع العلاقات الفكرية قد يمكن لنا أن نجزم بأنه لا يزال بكرا، و فاتحا أحضانه لكل مهتم أو باحث، و هذا بالرغم من إقرارنا أن هناك مجهودات جادة قد بذلت، من طرف مجموعة من الدارسين، خاصة من المغرب، للتعريف بهذه العلاقات المتميزة في المجال الثقافي و الفكري، مما يجعلنا نقف على الكثير من المواد المصدرية المخطوطة ذات الصلة، و نخص بالذكر الأساتذة : محمد إبراهيم الكتاني، محمد المنوني و محمد حجي، فقد كان لهذه النخبة فضل لا يمكن إنكاره في توجيه عناية مختلف الباحثين بالذخائر المصدرية المتعلقة بتاريخ هذه العلاقات.
1-العلاقات الفكرية بين المغرب و السودان الغربي:
1-1تاريخ العلاقات الفكرية بين البلدين:
إن الحديث عن تاريخ التواصل الفكري أو الثقافي بين المغرب و بلاد السودان الغربي، لا يمكن فصله عن شبكة العلاقات التي كانت قائمة بين هذين القطرين على امتداد المستويات و العصور، كما يدخل ضمن شبكة أخرى من العلاقات بين المغرب و دول جنوب الصحراء عموما، لدرجة قد تمتد جذوره في أعماق التاريخ، حتى مع عدم إنكارنا لتطورها بعد انتشار الإسلام،1 ففي القرن الثالث الهجري كانت بلاد السودان معبرا للقوافل التجارية المغربية نحو بعض دول شبه الجزيرة العربية، حسب ما يؤكده الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله :
“و ترجع هذه الصلة إلى القرن الثالث الهجري حيث كانت القوافل التجارية المغربية تمر بسجلماسة خلال بلاد التشاد، و السودان للتوجه إلى اليمن و الخليج العربي، و خاصة مدينة البصرة الشرقية التي سميت بها بصرة المغرب قرب القصر الكبير”2.
و قد استمر هذا التواصل في العصر الموحدي، بشكل أصبحت معه هذه العلاقات محددة بدقة غير معهودة في العصور السابقة، من خلال فرز كل مجال من مجالات التلاقح، مع استمرار الترابط فيما بينهم، فالتجاري مؤثر بالضرورة في الديني الذي لا يمكن فصله بشكل كامل عن الفكري و الثقافي، و بدون إغفال الجانب السياسي بشكل كامل. و لعل الصورة قد تكون واضحة فيما ورد في كتاب الاستقصا من أن الأديب السوداني أبا إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي، قد دخل على يعقوب المنصور الموحدي فأنشده :
أزال حجـابـه عني وعيني تراه من المهابــة في حجـــاب
وقر بني تفضلـه ولكــن بعدت مهــابــة عنــد اقترابي3
و هو ما يدل على أن هناك تمازجا ثقافيا كان قائما بين البلدين في هذه الحقبة، متمثلا في تواجد بعض الشعراء و الأدباء السودانيين في المغرب، و لا شك أن هذا يحيلنا على المكانة التي كان يحظى بها هؤلاء في المغرب، خلال هذه الفترة و تأثيرهم، و تأثرهم كذلك بالإبداع المغربي، إلى درجة أن يزيل –كما جاء في البيتين الشعريين السالفين- فيها يعقوب المنصور حجابه عن الشاعر أبا إسحاق، و هو ما لا يمكن القيام به من طرف السلطان إلا للخاصة المقربة. ثم هناك أثر آخر عن عالم و شاعر سوداني من أهل كانم كذلك، هو إبراهيم بن محمد بن فارس شاكلة الذكواني الذي هو أيضا “قدم المغرب قبل الستمائة بيسير، وسكن مراكش …وكان عالما بالأدب شاعرا…”4
و نجد هذا التواصل الثقافي قد ازداد توهجا بعد ذلك في العصر المريني، خاصة أن التجارة في هذا العصر قد ازدهرت بشكل كبير، بحيث كان المغرب يصدر المواد الغذائية و الخيول و المنسوجات و بعض المعادن، و يستورد الذهب و الرقيق و الجلود و العاج و غيرها…5 و طبيعي، و العلاقات التجارية قوية بهذا الشكل، أن تنموا بالموازاة معها علاقات ثقافية، فكرية، و أن يستمر المغاربة في دعم هذا التواصل و التلاقح . و ندرج هنا على سبيل المثال ما أكده العالم المغربي : عبد الله بن أحمد بن سعيد الزموري : “الذي وصل إلى بلاد “ولاتن” المتصلة ببلاد السودان و اقرأ أهلها و لقي هناك فقهاءها فاثني عليهم في العلم، ثم رجع”.6
و قد ورد في “الإعلام” عن الأديب الشاعر إبراهيم بن محمد الساحلي الغرناطي، نقلا عن العز بن جماعة قوله: “قدم علينا من المغرب سنة أربع وعشرين وسبعمائة، ثم رجع إلى المغرب في هذه السنة”.7
وورد في الكتيبة الكامنة أنه: ” لما آنس بكساد سوقه، من بعد بسوقه …ارتحل ، وبإثمد ملك السودان اكتحل..”8
و لعل احتضان مدينة فاس لجامع القرويين و الإشعاع الذي عرفته هذه المدينة بفضله، في عصر المرينيين ، جعل الثقافة المغربية تحتل مكانة هامة في نفوس السودانيين حكاما و شعبا، مما أصبحت معه قبلة للطلبة و العلماء على حد السواء.
و استمرت هذه العلاقات الفكرية الثقافية بين المغرب و السودان الغربي في توهجها، و قوتها مع وصول السعديين إلى الحكم في المغرب، بحيث تواصلت فيها رحلات علماء المغرب إلى السودان، من فجيج و فاس و سوس، فيستوطنها البعض نهائيا، و يقيم فيها آخرون سنوات فبل أن يرجعوا إلى مساقط رؤوسهم”9
و لا يسعنا في هذا العرض أن نلم بتاريخ العلاقات المغربية السودانية، ا و اأن نحيط بها من مختلف جوانبها، سواء تلك الممتدة عبر التاريخ، أو المختلفة في الاتجاهات و المستويات نظرا لضيق مساحة هذا المجهود البحثي، و قد اكتفينا بإعطاء أمثلة فقط من تاريخ هذا التواصل، في عصر المرينيين و السعديين.
1-2 مظاهر العلاقات الفكرية بين المغرب و السودان الغربي:
مظاهر العلاقات الفكرية و الثقافية بين المغرب و السودان الغربي، لا يمكن الحديث عنها بدون إجلاء و توضيح جوانبها المتعددة و المختلفة، فهناك ظاهرة الرحلة المزدوجة، من المغرب إلى السودان و من السودان نحو المغرب،و ظاهرة التدريس المتبادل لعلماء البلدين، و ظاهرة تتويج الممارسة العلمية، و اعتماد بعض المصنفات المغربية بشكل مكثف في السودان، و اعتماد بعض الكتب السودانية في المغرب الخ….
1-2-1 ظاهرة الرحلة من المغرب نحو السودان:
طيلة تاريخ العلاقات المغربية السودانية، كان هناك دائما علماء مغاربة، لهم رغبة في السفر إلى السودان ليستقرون به، و يمارسون فيه نشاطهم العلمي و الإبداعي، سواء أقاموا فيه إلى حين وفاتهم أو استوطنوه مدة ثم عادوا إلى المغرب، و سنذكر على سبيل المثال:
-العالم محمد بن يوسف الزياتي10 الذي انتقل إلى السودان، و بقي هناك إلى أن أدركه الموت .
-العالم محمد بن عبد الكريم المغيلي11 الذي تنقل في جميع مراكز السودان قبل أن يسلم الروح بتوات سنة 909ه.
-العالم عبد الرحمان بن علي سقين السفياني12 الذي عاد إلى فاس و توفي بها بعد قضائه سنوات طويلة بالسودان.
1-2-2 ظاهرة الرحلة من السودان نحو المغرب:
و في مقابل الرحلات من المغرب إلى السودان كانت هناك رحلات وافدة على المغرب من السودان تتلخص في استقرار مجموعة من العلماء السودانيين في المغرب، في مختلف المراكز العلمية آنذاك كسوس و مراكش، فاس و غيرها و سنذكر على المثال لا الحصر :
-العالم أحمد بابا السوداني13 صاحب ” نيل لابتهاج بتطريز الديباج” و الذي بلغ مقامه في المغرب سنوات عديدة و أخذ منه الشوق إلى بلاده كل مأخذ، حيث نجده ينشد :
أيا قاصدا كاغو فعج نحو بلدتي و زمزم لهم باسمي و بلغ أحبتي
سلاما عطيرا من غريب و ثائق إلى وطن الأحباب رهطي و جيري
أبي زيدهم شيخ الفضائل و الهدى و صنو بني عمي و أقرب أسوتي
-العالم الشاعر عبد الحكيم الجواري، قاضي تيكورارين، الذي أكد المؤرخ المغربي أحمد بن القاضي أنه اجتمع به في مراكش سنة 998ه14
-العالم عمر أبو حفص بن الحاج أحمد بن عمر أقيت المتوفى شهيدا بمدينة مراكش..
و غيرهم كثير، و سنكتفي بهذا القدر للاعتبارات التي ذكرنا سالفا.
1-2-3 تدريس علماء البلدين بأهم المساجد المتواجدة بمختلف مراكز القطرين :
جاء في كتاب “الفوائد الجمة في أسانيد علوم الأمة” لصاحبه أبا زيد عبد الرحمان التمنارتي، أن أحمد بابا السوداني قد تصدى للتدريس في مسجد الشرفاء بمراكش، و تتلمذ على يديه الكثير من أعلام المغرب آنذاك : ” و من العجب أنه لما تصدر للإقراء بجامع الشرفاء بمراكش ورد مجلسه لسماع الحديث
و أخذ الرواية عنه أكابر فضلاء مراكش و صدور العلماء كالمفتي الإمام المتفنن عبد الله الرجراجي15 و
قاضي فاس العالم أبي القاسم بن أبي النعيم الغاني،16 و قاضي مكناسة الفقيه الرحالة أبي العباس بن القاضي المكناسي17 و آخرين مما لا يأخذهم الحصر”.
1-2-4 تتويج الممارسة العلمية بتأليف الكتب ووضع التصانيف:
إذا أردنا أن نعطي مثالا حيا في هذا المجال، فلن نجد أفضل من كتاب “نيل المجال” للعالم السوداني أحمد بابا التمبكتي، و هو الكتاب الذي استدرك به ما غفل عنه ابن فرحون قي “الديباج المذهب في معرفة علماء المذهب” و قال عنه مؤلفه :” بوصولي إلى منبع العلم في الديار المغربية حضرة الإمام العلية و المولوية الهاشمية الأحمدية المنصورية…بادرت إلى كتب ذلك الذيل…و أردت أن أخدم خزانته المشتملة على الطم و الدم من كتب العلم، أهديته و إن كنت في صنعي كجالب تمر إلى هجر أو قارض شعر لدى أهل حضر”18، و ذلك بالرغم من دسامة مادته و كثرة تراجمه،حتى جاء حسب قول مؤلفه : ” بحمد الله تعالى فوق ما أردت و زائدا على ما نويت و قصدت”19.
و تنبغي الإشارة هنا إلى أن هناك سنة كان معمولا بها عند علماء السودان، و هي إهداؤهم لمؤلفاتهم و تصنيفاتهم إلى الخزانة المغربية، و هو ما قام به هنا أحمد بابا التمبكتي، و علماء سودانيين آخرين كأحمد المقري التلمساني، الذي ألف كتابه “روضة الآس” و أهداه بدوره إلى الخزانة الأحمدية المنصورية. و لعلهما فعلا ذلك اقتداء بعلماء المغرب و أدبائه، “الذين كانوا يتبارون في تأليف الكتب برسم تلك الخزانة”20 .
1-2-5 اعتماد بعض المصنفات المغربية في التدريس في السودان:
قد نلاحظ في هذا الإطار اهتمام طلبة السودان و علمائه بالفكر المغربي، من خلال ما ألفه المغاربة في موضوعات شتى، و خاصة كتاب “الشفا” للقاضي عياض، الذي احتل مكان الصدارة من بين المؤلفات المغربية، و لعله يبدو هذا جليا من خلال اطلاعنا على كتاب “تاريخ السودان” لعبد الرحمان بن عبد الله السعيدي، حيث نقف على عدد من علماء السودان الذين كانوا يسردون هذا الكتاب في حلقات دروسهم من مثل :
- أبي عبد الله محمد بن الفقيه المختار النحوي الذي كان يقوم بسرد “كتاب الشفا للقاضي عياض في رمضان في مسجد سنكرى”21
- عمر بن محمد بن عمر الذي “كان يقرأ كتاب الشفا للقاضي عياض على العلامة الحافظ الفقيه أحمد بن عمر بن محمد أقيت”22
1-2-6 اعتماد بعض الكتب السودانية في الدرس المغربي:
ندرج هنا كمثال على ذلك، كتاب “نيل الابتهاج بتطريز الديباج ” لصاحبه العالم أحمد بابا السوداني، هذا الكتاب يعتبر في المغرب من أهم مصادر تراجم علماء المذهب المالكي و فقهائه، سواء كانو مغاربة أو غيرهم.
ثم هناك أيضا العالم أحمد بن أند غمحمد الذي وضع شرحا على الجرومية ، قال عنه ابن الطيب القادري: ” و شرحه على الجرومية متداول بفاس”23
——————————————————-
الهوامش
1-المغرب في عهد الدولة السعدية، ص 147.
2-الموسوعة المغربية، معلمة الصحراء،ملحق1، ص 127
3-الاستقصاء، ج 5، ص 103.
4-ملامح من التواصل الثقافي بين المغرب و السودان في العصر السعدي، العدد269 ماي-أبريل 1988 عبد الجواد السقاط.
5-العلاقة التجارية بين المغرب و السودان في العصر المريني،
6- نيل الابتهاج، ص 161
7- الإعلام، ج1، ص 174
8- الكتيبة الكامنة، ص 235
9- المغرب في عهد الدولة السعدية
10- أزهار البستان في مناقب الشيخ أبي محمد عبد الرحمان، ص 8.
11-نيل الابتهاج، ص 176-177،
12- المصدر نفسه
13- نيل الابتهاج، ص 344
14- المصدر نفسه
15- الحركة الفكرية بالمغرب، ج2 ص 458
16- نشر المثاني، ج 1 ص 254
17- التقاط الدرر، صص 69،71
18- نيل الابتهاج، النسخة المخطوطة بالخزانة العامة بالرباط، رقم 766، ص 1
19- المصدر نفسه، ص 21
20- روضة الآس، المقدمة، ص 7
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *