الحرب السعودية الايرانية فى أفريقيا

الحرب السعودية الايرانية فى أفريقيا

كان زكزكي لا يزال في منتصف العقد الثالث من عمره حين قام بتأسيس الحركة الإسلامية في نيجيريا (آي إم إن) عام 1977 كحركة طلابية، وبعد عام واحد، كانت “الثورة الإسلامية” تقلب الأمور رأسًا على عقب في إيران .

على جدران أبرز مدن ولاية كادونا شمالي البلاد، يمكن للعابر أن يشك لوهلة أنه يسير في إيران وليس في نيجيريا. لم يكن من المستغرب حتى وقت قريب في مدينة زاريا بالولاية أن تشاهد تلك اللافتات والصور المجسدة لمشاهد الثورة الإيرانية والممجدة لرموزها؛ ولكن الأمور اختلفت كثيرا منذ نهاية عام 2015، بعد أن شهدت المدينة أحداثًا ربما غير مسبوقة في تاريخها. وكانت طهران، التي لا تعترف بالحدود، حاضرة كالعادة على بعد تسعة آلاف كيلومتر من الحيز الجغرافي الواقع تحت سيادتها.

كانت “الحركة الإسلامية الشيعية” في نيجيريا تمارس طقوسها التقليدية في إحياء مراسم “يوم القدس العالمي”، قبل أن تنخرط في صدام دموي غير مسبوق مع الجيش النيجيري، وكانت النتيجة وقوع أكثر من ثلاثمئة قتيل في صفوف الشيعة، بينما أعلنت السلطات في أبوجا أن التظاهرة الشيعية لم تكن سوى تغطية لمحاولة اغتيال تم تدبيرها بحق رئيس أركان الجيش الجنرال “توكور يوسف بورتاي”، من قبل “إبراهيم زكزكي” مؤسس “الحركة الإسلامية الشيعية” وقائدها.

كان زكزكي لا يزال في منتصف العقد الثالث من عمره حين قام بتأسيس الحركة الإسلامية في نيجيريا (آي إم إن) عام 1977 كحركة طلابية، وبعد عام واحد، كانت “الثورة الإسلامية” تقلب الأمور رأسًا على عقب في إيران، وسرعان ما آمن “زكزكي” أن تحقيق “ثورة إسلامية” أخرى هو أمر ممكن في نيجيريا، وتوطدت العلاقات حينها بين “زكزكي” وطهران سريعًا بفعل عقيدة “تصدير الثورة” التي كانت تدفع إيران إلى نشر أفكارها “الثورية”، وتقديم الدعم إلى أولئك الذين يتبنون هذه الأفكار في كل مكان في العالم دون اعتبار لقيود الجغرافيا. ورغم ذلك، كان على “زكزكي” أن ينتظر حتى عام 1996 قبل أن يعلن تحول حركته رسميًا إلى حركة شيعية ثورية، توصف اليوم بأنها “حزب الله” جديد في نيجيريا.

زكزاكى

خلاف علاقته بإيران، هناك الكثير من الأسباب التي تجعل “إبراهيم زكزكي”2 يستحق وصف “خميني نيجيريا”.3 لم يتوقف تأثر “زكزكي” بالثورة الإيرانية عند حد الأفكار والأيدولوجيات؛ ولكنه تخطى ذلك إلى الوسائل، وعلى خطوات “الخميني” الذي كان يسجل خطبه في باريس، ليتم نسخها وتوزيعها حيث يتلقاها الجميع في طهران، كان “زكزكي” يقوم بترجمة الأفلام الوثائقية للزعماء الشيعة إلى اللغة المحلية “الهوسا”؛ حيث تباع بأعداد كبيرة إلى السكان المحليين، فضلًا عن توزيع المجلات مثل “ميزان” التي ظل “زكزكي” وأتباعه يصدرونها باللغة المحلية على مدار سنوات.

وبينما لم يخفِ “زكزكي” أبدًا ولعه بنموذج الثورة الإسلامية في إيران، إلى درجة أنه أكد يومًا في حوار مع “بي بي سي”4 أنه يقوم بتدريب بعض أنصاره للعمل كحراس، على غرار “حرس الثورة” في إيران؛ إلا أنه يصر على أنه لم يتلق أي دعم مباشر من طهران في أي وقت، عكس ما يؤكده المسؤولون في طهران أنفسهم، والذين دأبوا على الفخر بأن إيران قامت بإمداد “الحركة الإسلامية” في نيجيريا بأساليب التدريب على حرب العصابات وصنع القنابل واستخدام الأسلحة اليدوية.5

يقبع “زكزكي” اليوم في سجون السلطات النيجيرية، منذ تلك الأحداث الدموية التي قتل فيها ثلاثة من أبنائه، إضافة إلى نائبه محمد محمود توري، بعد ما أصيب “زكزكي” نفسه بأربع رصاصات أثناء اقتحام السلطات لمنزله.6 في حين لم تفوت إيران كعادتها الفرصة في إظهار رعايتها للمسلمين الشيعة؛ حيث وجهت انتقادات لاذعة للنظام في نيجيريا متهمة إياه باضطهادهم، ومطالبة بالإفراج عن “زكزكي” -الذي سبق أن كرمته خلال احتفالات ذكرى “الثورة الإسلامية” عام 2014- وأيضا بدفع تعويضات لقتلى الشيعة. كما لم تنس طهران ممارسة هوايتها الأثيرة في التعريض بخصمها الإقليمي، السعودية، متهمة إياها بـ”زرع بذور الشقاق بين المسلمين في البلدان الإسلامية” خاصة بعد ما قامت الحكومة النيجيرية بحظر “الحركة الشيعية”، قبل أن تقدم أبوجا مؤخرًا على تصنيفها كمنظمة إرهابية7، بعد عامين من الدبلوماسية المكثفة التي دفعت نيجيريا -فيما يبدو- بالقرب من الرياض، وأبعدتها عن غريمتها التقليدية في طهران.8

“ديربي الخليج” في غرب أفريقيا

2017-07-31_19-57-44

هي جولة جديدة إذن من المباراة الكلاسيكية العابرة للحدود بين خصمي ضفتي الخليج التاريخيين، وعلى عكس ما قد يبدو عليه الأمر للوهلة الأولى فإنها بدأت في وقت مبكر نسبيًا. ففي نفس العام الذي كان “زكزكي” يدشن فيه حركته الجديدة، كانت نيجيريا على موعد مع دخول وجه جديد إلى ساحة العمل الديني والاجتماعي في البلاد، كممثل للاعب الجالس على الطرف الآخر من الرقعة.

بعد أن عمل ممثلا لشمال نيجيريا في رابطة العالم الإسلامي التي أسستها السعودية في الستينيات، وبعد شغله عضوية المجلس الاستشاري للجامعة العربية الإسلامية في المدينة المنورة في السبعينيات، استقر القاضي “أبو بكر جومي” في نيجيريا أخيرًا، وقام بإعلان تأسيس جماعة سلفية حركية باسم “إزالة البدعة وإقامة السنة”، والتي تعرف اختصارًا باسم “إزالة”. ويقول مراقبون بأن “إزالة” تلقت قدرًا كبيرًا من الدعم من المملكة العربية السعودية، في إطار جهود المملكة آنذاك لمحاربة الطرق الصوفية في أفريقيا، على الرغم من أن “جومي” رفض التخلي عن تمسكه بالمذهب المالكي، خلافا لعرف السلفية التقليدية التي ترفض التمسك بمذهب محدد، كما أنه ظل منفتحًا على المشاركة السياسية للنساء، على النقيض من التوجه التقليدي للسعودية بشأن هذه القضية.9

لم يقتصر النفوذ الثقافي والاجتماعي السعودي في نيجيريا على ما يقال إنه دعم لـ”جومي”، فبالإضافة إلى عشرات المؤسسات والمعاهد الدينية والخيرية التي شيدتها المملكة في نيجيريا خلال السنوات التالية، قدمت الرياض أيضًا الدعم لداعية أكثر حداثة من أبناء “إزالة” وهو “جعفر محمود آدم” الذي تلقى تعليمه في جامعة المدينة المنورة في السعودية منتصف التسعينيات. وكان اغتيال “آدم” أثناء أدائه صلاة الفجر في أحد أيام عام 2007 نقطة فارقة في العلاقات السنية الشيعية في نيجيريا؛ حيث اتُهمت التنظيمات الشيعية بالتورط في عملية الاغتيال. ومع النفوذ المتزايد لجماعات التبشير الشيعي في نيجيريا، فإن “إزالة”، وغيرها من المؤسسات التي يُعتقَد بأنها مدعومة من السعودية في نيجيريا، صرفت جزءًا كبيرًا من جهودها في مواجهة الجماعات الشيعية التي تتلقى دعمًا من إيران.

دخلت المواجهة بين الفريقين طوراً جديداً في عام 2011 بعد ظهور بوادر تحول جماعة “زكزكي” إلى “جناح عسكري شيعي” موال لإيران، تزامنًا مع التغيرات التي ضربت الشرق الأوسط آنذاك.10 وتأكدت الشكوك حول علاقة إيران بالشيعة النيجيريين في عام 2013 بعد الكشف عن مستودع أسلحة في مركز حركة “زكزكي” شمال نيجيريا اتهم “حزب الله” بتهريبها عبر الشيعة اللبنانيين المهاجرين في نيجيريا، فهناك أكثر من ربع مليون مهاجر لبناني في غرب أفريقيا، وتسبب ذلك بتحول انتباه السلطات في نيجيريا إلى نشاط الحركات الشيعية، وهو توجه دعمته السعودية سياسيًا، وأعلنت “إزالة” دعمها له على لسان زعيم الحركة الحالي “عبد الله بالالو”، في الوقت الذي عارضته إيران بكل تأكيد.

blogger-image-748777560

تؤوي نيجيريا اليوم الجالية الشيعية الأكبر في أفريقيا بواقع قرابة سبعة ملايين شيعي. ولكن الوضع لم يكن كذلك قبل أربعة عقود؛ حيث بدأت العلاقات بين إيران ودول غرب أفريقيا الحديثة العهد بالاستقلال منذ الستينيات، وكانت إيران في ذلك التوقيت لا تزال تنتمي إلى المعسكر الغربي. ولكن مع قيام “الثورة الإسلامية” بدأت إيران تنظر إلى أفريقيا باعتبارها مجالًا مفتوحًا لنفوذها ومقارعة خصومها السياسيين السنة، إضافة إلى فك الحصار الاقتصادي الذي فرضه الغرب عليها، من خلال إقامة مصاف لتكرير النفط وفتح أسواق لصناعاتها والحصول على اليورانيوم الخام؛ حيث تسهم أفريقيا بـ 20% من إنتاج اليورانيوم العالمي الذي طالما كان محط اهتمام إيران مع نمو طموحاتها النووية. ومع غنى الأراضي الأفريقية بالثروات المعدنية والطبيعية، وعدم قدرة هذه الدول على استغلال إمكاناتها، أقامت إيران مئات المشاريع الاقتصادية الكبرى بدول السنغال وغامبيا ومالي وسيراليون وبنين ونيجيريا وغانا وكوت ديفوار، إضافة إلى آلاف المشاريع الصغيرة والمتوسطة، فضلًا عن بناء المراكز الصحية والتعليمية؛ حيث شيدت إيران أكثر من 92 مركزًا تتراوح بين مدارس التعليم الابتدائي والجامعات خلال الفترة بين عامي 1989 و1995 فقط.

كانت مالي هي الأخرى محطة للصراع المحتدم في غرب أفريقيا. ففي بلد يعاني نصف سكانه البالغين من الأمية؛ فإن الحصول على فرصة للدراسة في مدارس المصطفى الدولية ضمن 180 طالبا وطالبة فقط سنويًا هو أمر لا يمكن تفويته. توفر المدرسة -التي يتم تمويلها من قبل جامعة قم، مقر الحوزة العلمية الشيعية الشهيرة، والتي تعد واحدة ضمن 13 مؤسسة يديرها المركز الثقافي الإيراني في باماكو- مناهج مكثفة لدراسة اللاهوت والتاريخ والفلسفة واللغتين الفارسية والعربية، كما توفر فرصًا للطلبة المتفوقين لاستكمال دراستهم في إيران.

لم تخف البرقيات الدبلوماسية السعودية قلقها بشأن جهود التبشير الشيعي في مالي؛ حيث أوصت السلطات في الرياض بتمويل المشاريع المنافسة من المدارس والمساجد والدورات الصيفية من أجل مواجهة جهود طهران.12 في حين شهدت السنغال، التي تستضيف بدورها نصف مليون شيعي، جولات متتالية من التنافس. وكان من البارز قيام السنغال بإعلان إرسال أكثر من 2000 جندي إلى المملكة العربية السعودية بهدف “تأمين المقدسات الإسلامية”13، بعد أقل من شهرين على انطلاق الحرب السعودية في اليمن، وهو إعلان قوبل بتنديد إيراني واضح. وليس أدل على المركزية التي صارت أفريقيا الغربية تحظى بها في إستراتيجية المواجهة بين السعودية وإيران من حرص المملكة على إدراج أسماء معظم دول غرب أفريقيا -السنغال ونيجيريا وغينيا والغابون وكوديفوار وموريتانيا ومالي وبنين- ضمن تحالف مكافحة الإرهاب الذي أعلنت عن تشكيله، والذي كان موجهًا بالأساس ضد إيران.14

تمديد الرقعة

soudia-africa-489x275

هناك 300 مليون مسلم يقطنون اليوم 17 دولة في منطقة غرب أفريقيا، وقد ظلت على مدار سنوات ساحة للتنافس الأيدولوجي بين الرياض وطهران. كانت العلاقة بين السعوديين والشناقطة الموريتانيين هي أول مفاتيح النفوذ السعودي في منطقة الساحل الأفريقي وغرب القارة، وحرك هذا النفوذ دوافع دينية أكبر منها سياسية؛ حيث ركزت السعودية على تشجيع التوجهات السنية والسلفية في المنطقة في مواجهة الهيمنة الصوفية؛ ولكن السعودية فشلت في تفهم مركزية التدين الصوفي عند الأفارقة، حيث لعبت العشرات من الطرق الصوفية -التي تمتلك ملايين الأتباع- دورًا جوهريًا في مواجهة الاستعمار، واندمجت بشكل فاعل في البنى الاجتماعية للكثير من هذه الدول، واكتسبت نفوذًا سياسيًا كبيرًا.

لذا فإنه في الوقت الذي كانت فيه أفريقيا تشهد ما يعتقد بأنه مقاومة للتدين السلفي، خاصة تلك المناهج التي حوت كلامًا يمس الحركات والطرق الصوفية، فقد تعاونت إيران مع الطرق الصوفية للتغلغل بين المسلمين، مستغلة تمجيد الصوفيين لآل بيت النبي كمفتاح لنشر الفكر الشيعي الذي يقدس آل البيت، ويرى أحقيتهم بالصدارة في النظام السياسي الإسلامي، واستفادت من نفوذ الزعيم الليبي الأسبق معمر القذافي في المنطقة وعلاقته المتوترة مع الرياض؛ حيث احتضن القذافي الطرق الصوفية ودعمها، وخصص ميزانية ثابتة لرموزها الذين أضحوا ضيوف شرف دائمين على طرابلس. ونتيجة لذلك، وعلى الرغم من أن نفوذ إيران السياسي على الحكومات في منطقة غرب أفريقيا ظل متفاوتًا؛ فإن الجاليات الشيعية في هذه البلدان امتلكت نفوذًا اقتصاديًا كبيرًا؛ حيث تشير بيانات لامتلاك الجالية اللبنانية الشيعية حوالي 60% من القطاعات الاقتصادية الحيوية في ساحل العاج، و80% من شركات جمع وتصدير القهوة والكاكاو، وحوالي 80% في تجارة الماس في سيراليون.15

ولكن المنافسة لم تظل محصورة في غرب أفريقيا، ففي مارس/آذار من العام الماضي 2016 كان عملاق الاتصالات الجنوب أفريقي “إم تي إن” طرفًا في جولة جديدة من هذا الصراع16، حين فرضت هيئة الاتصالات النيجيرية غرامات بقيمة 5.2 مليارات دولار على الشركة الجنوب أفريقية، مع الكثير من التكهنات بأن هذه الغرامات كانت متعلقة بعمل الشركة في إيران؛ حيث تمتلك الشركة 49% من أسهم شركة الاتصالات الإيرانية “إيران سل”. ومما عزز من هذه التكهنات أن الرئيس النيجيري محمد بخاري كان يزور السعودية في ذات التوقيت، بينما كان جاكوب زوما رئيس جنوب أفريقيا يستعد لزيارة طهران، في توجه دبلوماسي يبدو متفقًا مع منظومة التوجهات التقليدية للدولة الجنوبية.

تعود أصول العلاقات بين إيران وجنوب أفريقيا إلى السبعينيات؛ حيث كانت إيران تزود البلاد بقرابة 90% من احتياجاتها النفطية، وفي نفس الحقبة وقعت إيران عقدًا بقيمة 700 مليون دولار لشراء اليورانيوم من جنوب أفريقيا، كما قامت بالاستحواذ على حصة 17.5% من مصفاة ناتريف هناك، وقامت بإصلاح اثنين من المدمرات في ميناء كيب تاون.

2017-07-31_20-11-14

ولكن العلاقات بين البلدين انقطعت فجأة بعد قيام “الثورة الإسلامية” قبل أن تستأنف من جديد في التسعينيات بعد الدعم الذي منحته إيران لحركة التحرر الوطني في جنوب أفريقيا، في مواجهة نظام الفصل العنصري؛ لتصبح إيران المورد الأول للنفط الخام إلى جنوب أفريقيا، ولترتفع قيمة التوريد من 18.8 مليون دولار في العام 1998 إلى 3.29 مليارات دولار بحلول العام 2008، وليتجاوز حجم التجارة بين البلدين خمسة مليارات دولار وفق التصريحات الإيرانية الرسمية. وفي الوقت الذي فُرضت فيه العقوبات الغربية على إيران، تحولت جنوب أفريقيا لميناء هام يربط بين إيران واستثماراتها في تكرير النفط في أجزاء أخرى من أفريقيا، هروبًا من سيطرة الشركات الغربية على مصافي النفط. كما استفادت طهران من الدعم الدبلوماسي لجنوب أفريقيا التي رفضت فرض عقوبات على طهران في مجلس الأمن، وامتنعت عن التصويت على قرار لمجلس الأمن بشأن سوريا بدعوى تحيزه لصالح المعارضة المسلحة.

برغم كل ذلك، لم تتم زيارة جاكوب زوما المنتظرة إلى إيران؛ حيث استبقتها زيارة مفاجئة لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى البلاد، سرعان ما أعلنت البلاد بعدها التزامها بعلاقات أوثق مع السعودية لمكافحة الإرهاب. وبعد شهر واحد على زيارة الجبير، لعبت بريتوريا دور الوسيط في حصول السعودية على صفقات أسلحة. كما أكدت صحيفة صنداي تايمز أن السعودية ودول الخليج تستخدم أسلحة مصنعة في جنوب أفريقيا في حربها في اليمن، تشمل طلقات ذخيرة لبنادق هجومية، وناقلات جند مدرعة، وطائرات بدون طيار، ومدافع رشاشة، إضافة إلى أنظمة مراقبة جوية تستخدم في توجيه المدفعية، وعدد من بنادق جي6 تستخدم من قبل القوات الإماراتية في اليمن أيضًا.18

ولكن جنوب أفريقيا تصنف على أنها واحدة من أكثر دول أفريقيا استقلالًا سياسيًا، ومن غير المرجح أن تلقي بثقلها على جانب واحد من الصراع؛ لذا فإنه في مطلع العام الحالي، وقعت إيران وجنوب أفريقيا مذكرة تفاهم لزيادة التعاون العسكري والدفاعي19، وذلك في أعقاب وصول أحد الأساطيل الإيرانية إلى ميناء بجنوب أفريقيا؛ حيث يبدو أن قطاع التصنيع العسكري النامي في الدولة الأفريقية يرغب في الاستفادة من علاقات متوازنة بين طرفي الصراع. وفي كل الأحوال فإن جنوب أفريقيا لا تعد حجرًا جديدًا على رقعة الشطرنج الممتدة للصراع، صراع كان من الحتمي أن يتجه إلى الشرق قليلًا؛ حيث مكامن النفوذ التقليدية على شواطئ البحر الأحمر وفي حوض النيل.

إلى البحر الأحمر: السودان وجيبوتي

البشير

لم يخف عمر البشير إعجابه يومًا بالثورة الإيرانية منذ وصوله إلى السلطة بانقلاب عسكري مطلع التسعينيات، بعد توتر نسبي في العلاقات بين البلدين إبان حكم جعفر النميري الذي وقف إلى جانب صدام حسين أثناء حربه مع إيران. استفاد البشير من الدعم الإيراني بالمال والسلاح في مواجهته مع الجنوب، وتبادل البشير والمسؤولون الإيرانيون الزيارات الودية على مدار عقدين من الزمن. وفي المقابل، كان مشهد توقف السفن الإيرانية في الموانئ السودانية في البحر الأحمر أكثر من معتاد، في حين سمح البشير للمراكز الإيرانية20 بالعمل في السودان تحت سمع الحكومة وبصرها21، وبدأت التجمعات الشيعية تظهر في البلد الذي لم يعرف التشيع عبر تاريخه؛ ليقدر عدد الشيعة في السودان اليوم بنحو نصف مليون شخص، قبل أن تبدو السودان وكأنها أفاقت فجأة على جهود التبشير الشيعي، حين أعلنت في فبراير/شباط 2014 عن إغلاق المركز الثقافي الرئيسي لإيران في الخرطوم، ومطالبة موظفيه الإيرانيين بمغادرة البلاد تحت ذريعة قيامهم بـ”ممارسة التبشير الشيعي في صفوف المواطنين السنة”.

كانت السعودية حاضرة في قلب المشهد كالعادة. في مطلع العام نفسه، أعلنت الرياض نيتها تدشين أربعة مشاريع إنسانية لإنقاذ الاقتصاد السوداني المتعثر بفعل العقوبات. في حين كانت الخارجية الإيرانية -كعادتها- تنظر شزرا إلى الجهود السعودية الرامية إلى الإضرار بعلاقتها مع السودان. لم يكن إغلاق المراكز الإيرانية الخطوة الوحيدة التي اتخذتها الحكومة السودانية التي سارعت للانضمام إلى التحالف السعودي في اليمن، قبل أن تقدم على خطوتها الأكثر جرأة بقطع كامل علاقاتها الدبلوماسية مع إيران مطلع العام الماضي 2016، في أعقاب التوتر الحادث بين الرياض وطهران إثر قيام السعودية بإعدام رجل الدين الشيعي “نمر النمر”، مع وعود باستثمارات سعودية بقيمة تتجاوز 11 مليار دولار.22

ومن السودان إلى إريتريا التي مثلت معقلًا تقليديًا من معاقل النفوذ الإيراني على البحر الأحمر؛ حيث كانت إريتريا هي المعبر التقليدي لتمرير الأسلحة الإيرانية إلى الحوثيين في اليمن منذ عام 2009 بحكم اتفاق مبرم بين البلدين.23 تحوي إريتريا عددًا من مصافي النفط الإيرانية، وكان وجود الحرس الثوري في الجزر الإريترية معتادًا؛ حيث نصبت إيران صواريخها على البحر، وشيدت مستودعات الأسلحة والذخيرة على بعد كيلومترات قليلة من مضيق باب المندب. وسرعان ما كان الرئيس الإريتري “أسياس أفورقي” ضيفًا على الملك سلمان في السعودية؛ حيث تم توقيع عدة اتفاقيات أمنية واقتصادية. وبعد ذلك بعام واحد تم الإعلان عن قيام الإمارات بتأسيس أول قاعدة عسكرية لها خارج حدوها في ميناء “عصب” الإريتري.

أما السعودية فوقع اختيارها على جيبوتي لتأسيس قاعدتها العسكرية في القرن الأفريقي24، في نفس البلد الذي يستضيف قاعدة “ليمونيز” العسكرية، أكبر القواعد العسكرية الأميركية في أفريقيا، والتي تستضيف أيضًا أكبر قاعدة فرنسية في القارة السمراء، إضافة إلى القاعدة الوحيدة لليابان خارج أراضيها، في الوقت الذي تستعد فيه جيبوتي لاستضافة قاعدة صينية جديدة جنبًا إلى جنب مع القاعدة السعودية.

تستمر مباراة الشطرنج الطويلة -إذن- بطول القارة وعرضها، بعد فترة من الغياب السعودي الذي سمح لإيران بممارسة نفوذها كاملًا، وتعود الرياض اليوم بأدواتها التقليدية والتي تنحصر في الدبلوماسية المالية ودعم “التمدد السني السلفي” في أفريقيا، وقد جلب الإنفاق المكثف للرياض العديد من الحلفاء الأفارقة إلى حظيرتها خلال العامين الماضيين، ولكن تجربة الرياض علمتها أن الحلفاء الذين تشتريهم بالمال سرعان ما ينفضون بمجرد توقفه؛ بينما لا تزال القواعد الاجتماعية الأفريقية الصوفية تبني بعض المناعة لانتشار “الفكر السلفي”.

إذن ينزوي صخب الحضور الإيراني في القارة السمراء؛ لكن أصولها الإستراتيجية لا تزال قائمة، وفي الوقت الذي تنتشي فيه الرياض بميدان التفوق الوحيد ربما في معركتها المفتوحة ضد طهران، فإنه وكما يبدو تفوق مرحلي، ولم تضع الحرب السمراء بينهما أوزارها بعد.

———————————————————
* نقلا عن موقع ميدان
بقلم : محمد السعيد

موضوعات متعلقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

أحدث الموضوعات

الكتاب الاكثر تفاعلا

الموضوعات الاكثر تعليقا

فيديوهات مميزة